كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في الإشارات: العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يُؤْثِر شيئًا على عرفانه وتعبُّدُه له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة. اهـ. فجعلهما حالة واحدة.
وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف، كيف وقد قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم، ومع ذلك لا محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر.
وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى: {ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 57].
والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له كيف تُجهد نفسك في العبادة وقد غَفَر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع.
واعلم أن من أهم المباحث البحثَ عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهرًا لكمال صفاته تعالى: الوجود، والعلم، والقدرة.
وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يَعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رُقيّ آجل لا يضمحل، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفًا على التلقين من السَّفَرَة الموحَى إليهم بأصول الفضائل.
ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نَفَرَاتها وشَرَدَاتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المُجازي بالخير وضده، شُرعت العبادة لِتَذَكُّرِ ذلك المُجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابَه بسُبحات الجلال يُسَرِّب نسيانَه إلى النفوس، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصلَ الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسُد النظام، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضًا شُرعت العبادة لتذكِّرَ به، على أن في ذلك التذكر دوامَ الفكر في الخالق وشؤونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجًا فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مَبدأً ونهايةً، وبه يتضح معنى قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من الخلق، ولما كان سرُّ الخلق والغايةُ منه خفيةَ الإدراككِ عَرَّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعًا لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة: {إلا ليعبدون} وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في الإشارات: لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يُفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكانَ مما يتعسر إنْ أمكن، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفَظه شرع يَفرِضه شارع متميز باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير، فوجب معرفة المُجازي والشارع وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففُرِضت عليهم العبادة المذكِّرة للمعبود، وكررت عليهم ليُسْتَحْفَظ التذكيرُ بالتكرير. اهـ.
لا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله قال:
أهابكِ إجلالًا وما بككِ قدرة ** عليّ ولكن ملء عين حبيبها

وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب قال محمود الوراق أو منصور الفقيه:
تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حبَّه ** هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقًا لأَطَعْتَه ** إن المحبَّ لمن يُحِب مطيع

ولذلك قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبي:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ** من أن أكون مُحبًا غير محبوب

وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165].
ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت المانوية من المجوس المعبود أهْرُمُنْ وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظُلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب يَزْدَان إله الخير، قال المعري:
فَكَّرَ يَزْدَانُ على غِرة ** فَصِيغَ من تفكيره أَهْرُمُنْ

والحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى: {إياك نعبد} حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقَّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله.
وزعم ابن الحاجب في إيضاح المفصل في شرح ديباجة المفصل عند قول الزمخشري اللهاَ أحمد أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى: {إياك نعبد} تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله: {بل الله فاعْبُد} [الزمر: 66] ضعيف لورود: {فاعبد الله مخلصا له الدين} [الزمر: 2] وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني.
وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى: {فاعبد الله} لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام،: {وإياك نستعين} جملة معطوفة على جملة: {إياك نعبد} وإنما لم تفصل عن جملة: {إياك نعبد} بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلًا أو بعضًا للإشارة إلى خطور الفعلين جميعًا في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص، أي نخصك بالاستعانة أيضًا مع تخصيصك بالعبادة.
والاستعانة طلب العون.
والعون والإعانة تسهيل فعللِ شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحدَه، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقَوْد، أو بقول كالإرشاد والتعليم، أو برأي كالنصيحة.
قال الحريري في المقامة: وخُلُقي نعم العون، أو بمال كدفع المغرم، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين.
وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعًا.
وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمامُ الفعل أو تيسيرُه، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع.
القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المُعين ما يتيسر به الفعل للمُعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي.
وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق؛ والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكلِّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل.
وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوعُ تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة.
ولذلك حذف متعلِّق: {نستعين} الذي حقه أن يذكر مجرورًا بعلى، وقد أفاد هذا الحذفُ الهامُّ عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدبًا معه تعالى، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادئ العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق، قال: {ألم نجعل له عينين ولسانًا وشفتين وهديناه النجدين} [البلد: 8 10] فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلُها المحسوسات وأعلاها المبصرات، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم، والثالث إلى الشرائع.
والحصر المستفاد من التقديم في قوله: {وإياك نستعين} حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شؤونهم، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى.
ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أَن وَلَعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سَبأ الشمسَ وعبد الفُرس النورَ والظلمة، وعبدَ القِبط العِجل وألَّهوا الفراعنة، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين.
ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب، فقد عبدت ضبة وتَيْم وعُكْل الشمسَ، وعبدت كنانةُ القمَر، وعبدت لخم وخزاعةُ وبعض قريش الشِّعْرى، وعبدت تميم الدبَران، وعبدت طيئ الثُريا، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلاهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنَّ جَعْلَهم وسيلة إلى الله ضرب من الاستعانة، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عُرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضًا لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في حاشية التفسير.
فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علَّم عبد الله بن عباس قال له «إذا سَأَلْتَ فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» فلم يأت بصيغة قصر.
قلت قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المَقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم، وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصورًا في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام اهـ.
وأقول تقفيةً على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرُّرُ قصر الحكم لديه على طَرَف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتَتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضًا بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم.
ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام.
وضميرا: {نعبد ونَستعين} يعودَان إلى تالي السورة ذاكرًا معه جماعة المؤمنين.